الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي
وإذا كان الله قد عصم الأجيال المتتالية من أمة الإسلام بأن حفظ لنا القرآن. ففي الأديان الأخرى كان هناك أناس من أهل الحقيقة، وأنصفهم الله: {لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ الله آنَآءَ الليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وَيُسَارِعُونَ فِي الخيرات وأولئك مِنَ الصالحين} [آل عمران: 113-114].لقد أنصفهم الله حق الإنصاف، والذين آمنوا برسول الله من أتباع تلك الديانات قد اهتدوا إلى الحق، واختلفوا مع غيرهم وقول الحق: {أُوتُواْ الكتاب} هذا القول يقتضي أن نقف عند (أُوتُواْ) أي أن شيئا قد جاء إليهم من جهة أخرى. إذن فالكتاب ليس من أفكار البشر؛ لأن المنهج لو كان من أفكار البشر لكان من الممكن أن يختلفوا فيه أو حوله، وبناء (أُوتُواْ) للمفعول يجعلنا نسأل: من الذي آتاهم الكتاب؟ إنه الله سبحانه وتعالى، والحق سبحانه وتعالى لا يأتي بمختلف فيه.وما دام الكتاب من عند الله فلا يمكن أن يوجد فيه خلاف. يقول الحق: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً} [النساء: 82].وكأن الله بنبهنا بذلك القول إلى أن كل شيء بنبت من البشر للبشر، فلابد أن تحدث فيه خلافات. إنما الشيء عندما يأتي من الواحد الأحد لا يمكن أن يحدث فيه خلاف أبدا. لا يمكن أن يحدث خلاف فيما اتحد فيه المصدر والمنبع إلا إن وجدت- بضم الواو وكسر الجيم- أشياء زائدة عن ذلك، وهذه الأشياء الزائدة هي أهواء الذين يقولون: إنهم منسوبون إلى الله.إذن فالحق سبحانه وتعالى يوضح لنا أن الكتاب لم يأت إليهم من بشر مثلهم، إنما من إله واحد قادر، وفي هذا تنبيه لأتباع الديانات السابقة. أي إنكم أيها الأتباع لا تتبعون إلا منهج الله، وحين تتبعون منهج الله الذي جاء به الرسل فأنتم لا تتبعون أحدا من الخلق، لأن أي رسول أرسل إليكم إنما جاء ليبلغكم بمنهج قادم من ربكم، ولم يقل لكم أحد من الرسل إن المنهج قادم من عنده والرسول يحمل نفسه على الطاعة والخضوع للمنهج المنزل عليه قبلكم، وهذه عزة لكم، ولينتبه جميع الخلق أن المنهج الحق دائما قد أخذه الرسل من الله.وحين يقول الحق: (الكتاب) فلنا أن نعرف أن كلمة (الكتاب) قد وردت في القرآن الكريم في أكثر من موضع، إن الحق سبحانه وتعالى يسمي القرآن مرة (قرآنا) لأنه يقرأ، ويسميه الحق أيضا (الكتاب) وذلك دليل على أنه يُكتب، وحين نقول: إن القرآن من (القراءة) فهذا يعني أن نبرز ما في الصدور بالقراءة ولكن ما في الصدور قد تلويه الأهواء؛ لذلك يحرس الحق قرآنه بما في السطور ولذلك فالقرآن مقروء ومكتوب.وعندما يقول الحق (من أهل الكتاب)، فإن ذلك تنبيه لنا أن الكتاب هو منهج مكتوب، أي لم يتم وضعه في الصدور ونسيته النفوس، لا، إنه منهج مكتوب، هكذا حدد الحق أمر المنهج السابق على القرآن، إنه مكتوب، فإن لعبت أهواء النفوس كما لعبت، فإن ذلك يعني تحريف الكلم عن مواضعه. ولنا أن ننتقل الآن إلى المعرفة (العلم): ما هو العلم؟ إن العلم هو أن تدرك قضية وهذه القضية واقعة في الوجود تستطيع أن تقيم الدليل عليها، وغير ذلك من القضايا لا يصل إلى مرتبة العلم لأنه لا يستطيع أحد أن يدلل عليه.مثال ذلك: نحن نقول: (الأرض كروية) إن كروية الأرض هي نسبة حدثت، ونقولها ونحن جازمون بها. والسابقون لنا في عصور سابقة قال بعضهم: (إن الأرض مسطحة)، وحاول أن يجد من الأسباب ما يقيم الدليل على ذلك ولكن الذين أقاموا الدليل على أن الأرض كروية كانوا صادقين بالفعل. وفي العصر الحديث صارت كروية الأرض أمرا مرئيا من سفن الفضاء، وغيرها من الوسائل، ونحن نعرف أنه (ليس مع العين أين) إن الكروية بالنسبة للأرض، هي نسبة، نقولها ونجزم بها، والواقع أنها كذلك، ونستطيع أن نقيم على ذلك الدليل.هذا هو العلم المستوفى، إن فساد الناس أنهم يأتون إلى قضية لن تصل إلى هذه المرتبة ويسمونها (علما) كقولهم: إن الإنسان أصله قرد، لا، إن أحدا لا يستطيع الجزم بذلك، وتلك قضية ليست من العلم، إن كلمة (علم) تُطلق على القضية المجزوم بها؛ وهي واقعة في الوجود، ونستطيع أن ندلل عليها، وإذا كانت القضية مجزوماً بها؛ وواقعة في الوجود، ولكنك لا تستطيع أن تدلل عليها، فماذا تسمي هذه القضية؟ هذا ما يطلق عليه (تقليد) تماما كما يقلد الولد أباه قبل أن ينضج عقله فيقول: (لا إله إلا الله، الله واحد). ومثلما يأخذ التلميذ عن أستاذه القضية العلمية، ولا يعرف كيفية إقامة الدليل عليها، فهذا نطلق عليه (تقليدا)، وإلى أن ينضج عقل التلميذ ويحسن استيعابه نقول له: ابحث بحثا آخر لتقيم الدليل.إذن فالتقليد هو قضية مجزوم بها، وواقعة، ولا يوجد عليها دليل. وهكذا نعرف أن (العلم) يمتاز عن التقليد بوجود القدرة على التدليل، لكن إذا ما كانت هناك قضية ومجزوم بها ولكنها ليست واقعة، فماذا نسمي ذلك؟ إن هذا هو الجهل. إن الجهل لا يعني عدم علم الإنسان، ولكن الجهل يعني أن يعلم الإنسان قضية مخالفة للواقع ومناقضة له. أما الذي لا يعلم فهو أميّ يحتاج إلى معرفة الحكم الصحيح، فالجاهل أمره يختلف، إنه يحتاج منا أن نخرج من ذهنه الحكم الباطل؛ ونضع في يقينه الحكم الصحيح، وهكذا تكون عملية إقناع الجاهل بالحكم الصحيح هي عملية مركبة من أمرين، إخراج الباطل من ذهنه، ووضع الحكم الصحيح في يقينه.ولذلك فنحن نجد أن تعب الناس يتأتى من الجهلاء، لا من الأميين؛ لأن الجاهل هو الذي يجزم بقضية مخالفة للواقع ومناقضة له، أما الأميّ فهو لا يعرف، ويحتاج إلى أن يعرف. وماذا يكون الأمر حين تكون القضية غير مجزوم بها، وتكون نسبة عدم الجزم، مساوية للجزم؟ هنا نقول: إن هذا الأمر هو الشك، وإن رجح أمر الجزم على عدم الجزم فهذا هو الظن، وإن رجح عدم الجزم يكون ذلك هو الوهم.إذن فوسائل إدراك القضايا هي كالآتي: أولا: علم. ثانيا: تقليد. ثالثا: جهل. رابعا: شك. خامسا: ظن. سادسا: وهم. والعلم هو أعلى المستويات في إدراك القضايا. ولذلك نجد أن الحق يحدد لنا على ماذا اختلف الذين أوتوا الكتاب، لقد اختلفوا من بعد ما جاءهم من العلم. ولم يقل الحق: إنهم اختلفوا بعد ما جاءهم التقليد أو الظن، أو الجهل أو الشك، إنما قال الحق: إنهم قد اختلفوا من بعد ما جاءهم الاستيفاء الكامل، وهو العلم. وما دام هناك أمر قد جاء من القائم بالقسط والإله الواحد، فالمسألة القادمة منه وهي الحق قد وصلت إلى مرتبة العلم إذن، ففيم الاختلاف؟ لابد أن أمراً ما قد جدّ. والذي يجد إنما هو قادم من الأغيار، وهي الأهواء، ولذلك يحدد لنا الحق هذا الأمر بقوله (بَغْياً بَيْنَهُمْ). ما البغي؟ البغي هو طلب الاستعلاء بغير حق. إذن فطلب الاستعلاء ليس ممقوتا في ذاته؛ لأن طلب الاستعلاء هو قضية الطموح في الكون. وأن يطلب إنسان الرفعة فيجد ويجتهد، ويبذل العرق ليصل إلى مكانة علمية أو غيرها، فهذا حق طبيعي، ونحن نعرف أن العالم قد ارتقى بالطموحات الإنسانية، إن العالم لو اكتفى وثبت عند الذي وصل إليه في جيل ما، فإن العالم يحكم على نفسه بالجمود، ولكن الناس طورت في العالم الذي تحياه بجهد بذله البعض منهم في قضايا نافعة، ثم حاولوا أن يرتقوا بها ونالوا حقهم من التقدير، وارتفعوا بالعلم بجهد حقيقي بذلوه، وبدراسة لما بذله السابقون عليهم.إذن فطلب الاستعلاء في حد ذاته غير ممقوت، بل محمود ما دام قائما على الجهد. ولكن أن يطلب الإنسان الاستعلاء بغير حق، فهذا هو البغي. لقد أثبت الله لنا في هذه الآية، أن كل خلاف بين رجال الدين، أو بين دين ودين، إنما مرجعه إلى نشوء البغي، ونشوء البغي هو طلب رجال الدين الاستعلاء بغير الحق. ومظاهر طلب الاستعلاء بغير حق هو إعطاء الفتاوى التي توافق أمزجة القوم، وتخالف ما أنزله الحق.إن الواحد من هؤلاء يدعى لنفسه التحضر، ويعطي من الفتاوى ما يناقض الذي أنزله الله، ويدعى أنه يأخذ الدين بروح العصر، ويدعى لنفسه عدم الجمود، ويذهب إلى حد اتهام المتمسكين بدينهم بأنهم متخلفون، والهدف الذي يختبئ في صدر مثل هذا الإنسان هو الاستعلاء في قومه بغير الحق، ويجب أن نفهم أن كل خلاف بين أهل دين واحد، أو بين دين ودين، منبعه قول الحق: {بَغْياً بَيْنَهُمْ}. وهذا يعني اتباع البعض للهوى النابع من بينهم ولم ينزله الله.لماذا؟ لأن الله سبحانه وتعالى إمّا أن ينزل الله حكما محكما لا رأى فيه لأحد، ولا يستطيع أحد أن ينقضه، وإما أن ينزل الله حكما قابلا للفهم والاجتهاد.ولم يجعل الله الأحكام كلها من لون واحد، إنما جعل الأحكام على لونين، وذلك حتى يحترم الإنسان ما وهبه الخالق له من عقل، ويجعل له مهمة، فيأتي بقضية ويبحثها ويرجع سببا على سبب. وفي ذلك استخدام من الإنسان لعقله، إنها رحمة من الله حتى لايجمد العقل الإنساني.إذن فإذا رأيت أي خلاف بين رجال الدين أو بين دين ودين فاعلم أن القول الفصل في هذا الأمر هو ما عبر عنه في القرآن: {بَغْياً بَيْنَهُمْ} فمن البغي يهب الهوى الذي تنشأ منه الأعاصير، إن من يحب الاستعلاء بغير الحق هو الذي يحاول البغي فيدعي لنفسه أنه أرقى في الفكر، أو يستعلى عند من يملكون له أمرا، أو يستعلي عندما يوافق حاكما في رأي من الآراء، ويبرر للحاكم حكما من الأحكام.إن كلمة {بَغْياً بَيْنَهُمْ} يدخل في نطاقها كل موجات الخروج عن منهج الله، والتي نراها في الكون، والرسول صلى الله عليه وسلم قد أعطانا المناعة ضد الأمراض النفسية الناشئة عن البغي، مثلما يعطي المعاصرون المصل ضد أمراض البدن التي تفتك بالإنسان، وحتى لا تفاجئنا أمراض البغي، نجد الرسول يعطينا المناعة فيقول لنا صلى الله عليه وسلم: «البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس» ويحذرنا الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك كما في الحديث التالي: فيقول صلى الله عليه وسلم: «البر ما سكنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما لم تسكن إليه النفس ولم يطمئن إليه القلب وإن أفتاك المفتون».إن الرسول صلى الله عليه وسلم يحذرنا ليوضح لنا أن أهل البغي لهم لجاج في أن يقولوا ويصدروا الفتاوى، وما معنى الإفتاء الذي يحذرنا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل هو مجرد رأي؟ أم هو رأي يأتي من إنسان معروف عنه أنه مشتغل بعلم الله وبالأحكام؟ إن الرسول صلى الله عليه وسلم ينبهنا إلى ذلك مناعة لنا. فقد يصبح أصحاب الحق قلة، وليس لهم نصيب في إيصال رأيهم للناس، أو أن الذين يملكون الكلمة الإعلامية ليسوا مع أصحاب الحق بل في جانب رجل يساير الباطل أو الركب.وهنا نرى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أعطانا المناعة حتى لا ييأس المتمسكون بالحق، فأمر الدين لن يمر رخاء، أو بسلام دائم، بل سنجد قوما يفسرون أحكام الدين بغيا بينهم، ويلوون الأشياء؛ لذلك أوضح لنا أن المؤمن حَكَمٌ في نفسه، ويحذرنا من الذين يفتون بالبغي، إن الإفتاء يحتاجه الناس من الذي يعلم، ولذلك جاءت كلمة (يستفتونك) أكثر من مرة في القرآن الكريم، لأن الذين يطلبون الفتوى هم الذين يحتاجون إلى توضيح لأمر ما؛ لأنهم مشغولون بقضية الإيمان، ولذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم يحذرنا من الذين يحاولون إلقاء الفتاوى، ويحذر كل مؤمن من أن يستمع لكل فتوى.ويقول الحق: {وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ الله}. إذن فمن هو الذي يكفر بآيات الله؟ وفي أي مجال؟ إن الكفر بآيات الله هنا محدد في الاختلاف، وفي البغي بينهم، أي طلب الاستعلاء بغير حق، وسمى الحق كل ذلك (كفرا) والمراد منه هنا التنبيه لنا ألا نستر أحكام الله بالاختلاف أو البغي، وجاء التحذير في تذييل الآية بقوله: {فَإِنَّ الله سَرِيعُ الحساب}. فإياك أن تستطيل أمر الجزاء وتقول: سأستمتع بنتيجة البغي والاختلاف لخدمة من يهمهم أمر الاختلاف، ويهمهم أمر البغي، لأنك تريد أن تتعجل أشياء تظن أنها نافعة لك، لكن ها هو ذا الحق سبحانه يحذرك أن تستبطئ حسابه، لماذا؟ لأنه من الجائز أن يأتي لك الحساب من الله في الدنيا، وهب أن الله لم يبتل مثل هذا الإنسان ببلاء كبير في الدنيا فإن هذا الإنسان سيكون له الحساب العسير في الآخرة.وقد يقول قائل: إن الحساب في الدنيا قد يؤجله الله إلى الآخرة، والعلامات الصغرى للقيامة نحن في مراحلها، وما زالت العلامات الكبرى ليوم القيامة لم تظهر. لمثل هذا القائل نقول: هناك فرق بين الحدث في ذاته، وبين الحدث فيمن يُجرى عليه الحدث. هناك فرق بين أن تقوم القيامة على الناس جميعا، وبين أن تُختصر حياة الإنسان بحادثة ليست في حسبانه، فقد يفتى الإنسان فتوى اليوم؟ وتأتي له حادثة فورية تنقله فجأة إلى سريع الحساب، فإن استبطأ إنسان الحساب، فعليه أن يعرف أن الآخرة قد تجيء له أسرع من مسائل الدنيا لأن الإنسان لا يملك القدرة على أن ينقل إليه من يريد في أي وقت. وهكذا تكون الآخرة بالنسبة للمستبطئ للحساب أسرع من حساب الدنيا، وكلمة (حساب) كلمة تطمئن المؤمن إلى أن الله قائم بالقسط لا يتخلى حتى عمن كفر به أو عصاه، إن كل إنسان يأخذ ماله ويدفع ما عليه، ويقول الحق من بعد ذلك: {فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ...}.
|